قتلت نفساً بريئة طباعة

حُكِمَ عليّ بالسجن المؤبد فأظلمت الدُنيا إمامي ودخلتُ السجن وأنا اشعر بذنب كبير ووغز اليم، شعرت خلالها إني قاتل واستحق الموت، عشتُ بعدها أيام وشهور مليئة بالأرق والألم والندم على ما فعلت، وشعرتُ بذنب كبير، لقد صارت جدران سجني ملحمة صراع نفسي

التقى بي وكان لقائه معي في ليلةٍ مظلمةٍ في زنزانة خُصصت لخاطي قاتل أثيم مثلي. فأنار بحبه ظلام سجني، ومع أنني سمعتُ عنه الكثير من قبل واشتقتُ الى رؤيتهِ. ولكن غرور الخطية وإغراء الشيطان تسببا في حرماني منه زمناً طويلاً .

أما هو فقد سعى اليّ بطرقه العجيبة وتدابيره الصالحة، وأخذ يبحث عني كما يبحث الراعي الصالح عن خروفه الضال حتى يجده. ولستُ أذكر أنه عاتبني وأنبني بقدر ما أحبني وجذبني بقوة حبه، ولست أذكر أنه أخذ مني شيئاً، ولكنه أعطاني الكثير،أعطاني صفحاً وغفراناً، يقيناً وإيماناً، ثقة ورجاء، فرحاً وسلاماً، قوة وسلطاناً .
كيف استنارت عيناي فأبصرت نوره البهي ومجده السني!؟ كيف أدركت أنني قد صرت ابنا له!؟ كيف تغير القلب، وتجدد الذهن، وتبدلت الرغبات!؟ لست أدري ... ولو هذه المعجزةحدثت مع إنسان آخر لشككت في أمرها، ولكن بما أنها حدثت معي فلا أقدرأن أنكرهها أو أشك في صحتها.

مضي الآن على تلك المقابلة ما يقارب 11 عاماً، وكأنها حدثت بالأمس القريب، فقد أنستني صحبته طول السنيين وظلام جدران سجني الأليم فلم أشعر بثقلها ووطأتها، وكأنني لم أجاهد أو تعب أو أكافح فهو الذي جاهد وتألم وكافح عوضاً عني.مرات كثيرة كنت أنظر الى نفسي وأندهش كيف لا أعطي انتباها بما يدور حولى!؟ كيف لا أهتم بماض أو حاضر أو مستقبل.؟ كيف أعيش في عالم مضطرب وفي ظروف صعبة وكأنني لا أبالى بشيء ولا أحس بشيء.!؟

دعوني أختصر لكم رحلة الإيمان التي بدأتها ولا زالت مستمرة و ستبقى الى آخر لحظة في حياتي على الأرض. والى أن أصل الى موطني السماوي.
تركت بلدي عام 1980 م في رحلة أيقنت فيما بعد أنها بداية رحلة إيماني العجيبة.هاجرتُ بطريقة غير شرعية وبظروف خارجة عن إرادتي إلى إيران في بداية الحرب العراقية
الإيرانية وبقيت عدة شهور، وأكملت بعدها السفر إلى تركيا وفي احد الأيام جاء البوليس الى المكان الذي كنت اسكن به واقتادني الى المخفر(قسم الشرطة) وكانت التهمة الموجهه لي بإنني دخلت البلد بغير جواز سفر فأدعيتُ بأني سوري الجنسية.
بعد مدة من التحقيق في الأمن التركي ابعدوني الى سوريا، بقيت في سوريا لمدة طويلة كنت حينها بين الفترة والآخرى اذهب الى لبنان، ولكن نشب خلاف بيني وبين احد الأشخاص الذي ترتب عليه ابعادي من سوريا والذهاب الى لبنان وبقيت من بداية عام 1981 م الى عام 1990 م في لبنان تنقلت خلال هذه السنين من منطقة الى منطقة واشتغلت في كافة الأشغال. ولكن بعد إن بسطت القوات اللبنانية شرعيتها في (جونيه)قررتٌ الهجرة إلى الخارج ماراً بقبرص إلى بلغاريا، ثم أكملت طريقي الى موسكو الى أن وصلت أخيراً بالسويد.

في بداية 1993 قررتُ أن اصبح رجل أعمال فقمت باستيراد الثريات والأثاث وكانت سفرياتي كثيرة. في بداية دخولي الى السويد تعرفت الى احد النساء وهي عربية وكانت مطلقة وكانت ثمر هذه العلاقة وِلدَ لي طفل منها، وكان هذا السر لا يعرف به أي انسان. مرت السنين وأزداد عملي وازدادت معصيتي وأخطائي في كافة المجالات (لأن المال والشهوة) هما رأس الحربة في الحياة الحاضرة ونحن في بلد لا أستطيع أن أصفه.. تبدلت فيه أخلاق من كانت لهم أخلاق في بلادهم.

وشاءت الظروف اني اختلفت مع احد الأشخاص وهو كردي إيراني حول أمور مالية اردتُ تصفيتها معه بحضور بعض الأشخاص وكان لي معه قصة طويلة تخص العمل وكانت هذه الليلة التي بدأ الظلام يطبق على حياتي بشكل قاتم لا أرى فيه أي شيء .جلسنا في بيتي لنناقش المشكلة وطبعاً كنت قد جهزت طعاماً وشراب ولزوم السهرة. وكنا نجلس سويا أمام المائدة وكانت على مائدة الطعام سكينة لقطع اللحم، لم أتمالك أعصابي عندما أمسكت السكينة بكل قوتي وضربته في صدره لكني لم أكن أتوقع انه سليفظ أنفاسه الأخيرة في الحال. وحدث ما حدث. لا استطيع الاستمرار في شرح ما حدث وما كان بداخلي من شعور في وقتها. كان هذا الفعل الشنيع خارج عن ارادتي.!

حُكِمَ عليّ بالسجن المؤبد فأظلمت الدُنيا إمامي ودخلتُ السجن وأنا اشعر بذنب كبير ووغز اليم، شعرت خلالها إني قاتل واستحق الموت، وشعرت إنني ضال وقاتل واستحق القتل.عشتُ بعدها أيام وشهور مليئة بالأرق والألم والندم على ما فعلت. وشعرتُ بذنب كبير ووغز للضمير لأني انتزعتٌُ روحاً ليس لي حق في ان انتزعها.صارت جدران سجني ملحمة صراع نفسي، تركني الجميع ولم يكترث بيّ إنسان حتى أهلي لأنهم اعتبروا اني جلبتُ عليهم عاراً وخزياً.!
بكيت كثيراً وما أكثرها من ليالي توقفت الدموع لأن بكائي لا يفيد، لا أستطيع النوم والكوابيس تهاجمني عندما أغمض عيني، وتعاطيت الأدوية المهدئة التي كان يوصفها لي طبيب السجن، لأني كنت حينها اشعر بذنب كبير يحيطني من كل جانب، ما أصعبه إحساس وما أفظعه من آلم وعذاب ضمير.

ومرت حوالي سنة ونصف وفي صباح احد أيام الأسبوع جاء لزيارتي قس السجن الذي كان يزورني بين الحين والأخر للاطمئنان على وضعي النفسي. وفي زيارته التالية جلب معه لي بعض الصحف والمجلات باللغة العربية وكانت هنالك مجلة اسمها "كتابي " وبها إعلان عن وجود مدرسة تُدرِس الكتاب المقدس.فسألت نفسي لماذا لا اقتل وقت فراغي بالدراسة والمراسلة؟ قد يشغلني هذا الشيء عن التفكير بمشكلتي. فقمت بمراسلة هذه المدرسة وكان هناك شخص يدير قسم المراسلة وهو مصري الجنسية يدعى (مراد غريب) راسلته ودرست معه الكتاب المقدس .أرسل لي الكتاب المقدس الذي مازلت احتفظ به كأعظم هدية وصلتني على الاطلاق.!عندما درست الإنجيل درسته دراسة سطحية في بادي الأمر. فقط كانت الغاية قتل الفراغ ولشغل وقتي في الكتابة والمراسلة.
وبعد فترة انتهيت من الدراسة وانقطعت مراسلتي مع الأخ مراد غريب لعدة اشهر وفي احد الأيام من عام 1997 م وفي بداية العام وإثناء ترتيبي لأغراضي للانتقال إلى قسم آخر في السجن ووجدتُ أمامي الإنجيل مرة ثانية كنت قد تركته بين أغراضي فأخذته وفتحته ثم وضعته بجانب رأسي بدون أي قصد أو أي تفكير، وفي المساء وبعد جهد الانتقال وتنظيف غرفتي (زنزانتي )بقيت مسترخياً في سريري وواضعاً يدايّ تحت رأسي وكان بجانب رأسي كتاب الحياة الكتاب المقدس مددتُ يدي وفتحته بدون ان احدد الصفحة فوقعت عيني على هذه الآية “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع إبن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.” وبعدها أكملت الآية التي شدتني أكثر لمعرفة المسيح “ لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” يوحنا 3: 16 ثم أكملت القراءة بعد هذه الآيات بآيات أخرى جعلتني أفكر جدياً بالبحث والتنقيب عن الحق والحقيقة وهي “ لأنه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم “ يوحنا 3: 17

ماذا أقول وماذا افعل أمام هذه الكلمات التي اعجز عن وصفها الآن لأنها نبع المحبة الأبوية التي وضعها الله أمامنا حتى نؤمن به.تأملت كثيراً هذه الآيات وتعريفها وشرحها ولكني عجزت في البداية عاودت قراءتها فلم افلح في معرفة معانيها مرة أخرى فنمت بعدها...
وفي الليلة الثانية بدأت بقراءة إنجيل يوحنا بشغف كبير ورغبة لم أشعر بها سابقاً وعندما وصلت الى الإصحاح الخامس والآية الرابعة والعشرون "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل انتقل من الموت الى الحياة.

تحيرتُ جداً بعدها عاودت الكتابة الى الأخ (مراد غريب )موجهاً له عدة أسئلة فجاوبني عليها في عدة رسائل لازلت احتفظ بها، وشجعني على الدراسة وزودني بما احتاجه من كتب ومن دراسات ومراجع.فبدأت أتعمق وافهم أكثر وزادت معرفتي بأمور كثيرة في الإنجيل، وكنت في حينها لا زلت اقرأ فقط في العهد الجديد. ولكني لم استطع بعد أو ازن أو أعطي أي رأي أو قرار فكنت بين الحين والآخر أناقش مراد غريب في التلفون او من خلال الرسائل البريدية.الغريب من الأمر إني بدأت لا اشعر بثقل السجن أو بالمعنى الأصح تناسيت هذا السجن من خلال أنشغالي في التفكير والقراءة والتعمق.

وكنت أعيد انجيل يوحنا لا ادري ما هو السبب!؟ ولكني كما قلت جذبتني الأقوال والكلمات بالانجيل. أخذتني القراءة الى رحلة فكرية فريدة أحسست بان شيء ما غريب يحاول ان يدق باب أفكاري بكل لحظة ويجعلني أفكر في اتخاذ قرار معين لا اعرف المقصود به؟ وما هو هذا القرار الذي يجب أن أتخذه؟الأمرالذي انتبهت له من خلال قراءتي هو قناعتي الفكرية لكل كلمة مكتوبة في الإنجيل، ولكن هناك أمامي حاجز واحد هو صلتي بخلفيتي وقناعتي السطحية بمعتقدتي وما مكتوب به دون تعمق دراسي أو تفسيري.
كنت محتاراً وواضعاً أمامي قرار صعب هل أؤمن بالإنجيل بعد هذه الدراسة والبحث؟

بدأت في حيرة من أمري وكلما يصعب علىّ الأمر أو اقف حائر أذهب إلى انجيل يوحنا وأحاول أن أتعمق وأتأمل أكثر بكل كلمة.أحسست بشيء بدأ يشغل فكري لا أستطيع أن احدده أو استوعبه، ووقفت حائراً، شعرت بالجوع والعطش الفكري لأني قررت ان اعرف الحقيقة كاملة ..
وفي احد الليالي كنتُ نائماُ على سريري متأملاً ما يدور في فكري وفي نفس الوقت كنت أيضا سعيداً وفرحاً لأني شعرت انه منذ أنني بدأت طريق بحثي عن الحقيقة بأن أيام سجني وشهورها بلسنينها بدأت تمر بسرعة.
في تلك الليلة عينها لم أتعشى أو اشرب أي شراب ولكني ذهبت الى فراشي فأمسكت بالإنجيل لأعاود القراءة وفي هذه المرة بدأت اقرأ وعندما وصلت الى هذه الكلمات بالانجيل كما دونه يوحناوالاصحاح السابع والعدد 37 “ إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، ومن آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي”.بالرغم من اني قرأت هذه الكلمات عدة مرات إلاّ انني وقفت متحيراً! لمن كتبت هذه الكلمات؟ ولماذا كتبت؟

فأغلقت الكتاب عندما انتهيت من قراءة هذه الآيات التي جعلتني اشعر بحزن اتجاه ذلك الانسان الذي غسل أرجل تلاميذه، الذي ترك السماء وتنازل لكي ما يأتي الى أرضنا، الذي أحب الخطاة حب لا مثيل له، الذي ضحى بنفسه وبحياته من أجل الأثمة واللصوص والقتلة والزناة، الذي لم يفعل خطية ولم يكن في فمه غش أو كذب.
أغمضت جفني لأنام وأنا في حيرة أحسست بأنه يجب عليّ أن اتخذ القرار ولكني ترددتُ وفي نفس الوقت كان إحساسي يقول لي هذه هي الحقيقة حاولت الهروب منها فلم استطع ، أغمضت جفني لأنام وقلت قبل ان أنام سأغير قراءتي من إنجيل يوحنا لأن إنجيل يوحنا بدأ يشغل فكري ويقلقني كثيراً لأني لم أرى ولم أقرأ في أي كتاب بمثل هذه المحبة الموجودة في انجيل يوحنا ..نمت بعد صراع فكري ولكني نمت مستريح وإمتلأ كياني بفرح وسلام لم يسبق أنني شعرت به من قبل. وفي تلك الليلة ظهر لي في المنام شخص ناصع البياض في ثيابه أما ملامحه فلم استطع ان أميزها لأنها كانت نور.! قال لي بالحرف الواحد “ لماذا أنت متحير أنا هو يوحنا الذي تقرأ في إنجيله كل ليلة، الطريق أمامك واضح آمِن بما يؤمن به أخاك مراد ” ... أعاد هذه الكلمات عدة مرات واختفى.أفقت من حلم لم احلم به من قبل. وكانت الساعة تقريباً تقارب الثالثة صباحاً فأمسكت الإنجيل وفتحت نفس الصفحة التي قرأتها بالاصحاح السابع والعدد 37 لأني وضعت بين الصفحات ورقة صفراء اعدت القراءة “ إن عطش احد فليقبل إليّ ويشرب” ثم أغلقت الإنجيل وكانت أفكاري مشدودة لهذه الكلمات العظيمة.شعرتُ في تلك الليلة بأنه عليّ أن اتخذ قراراً حاسماً أو ابتعد عن ما قد سوف يشغلني ويشتت أفكاري.

ولكني في هذه الليلة رفعتُ نظري الى السماء وهذه أول مرة انطق بكلامات تخرج من أعماق قلبي وقلت : يارب أريد ان ترشدني، يارب أعفو عني لأني إنسان قاتل ومجرم ... أعني، ساعدني يارب. هذا ما طلبته من الله في لحظات شعرت بضعفي وعجزي.ونمت وفي هذه الليلة عاودني الحلم مرة ثانية وسمعت الصوت ذاته وقال لي “ آمِن بما يؤمن به أخاك مراد”غلب علىّ النعاس فلم أفق إ في الصباح ورفعت سماعة التلفون لأتكلم مع الأخ مراد غريب، طال حديثي معه هذه المرة وأثناء حديثي أخبرته بأنني قبلت المسيح مخلصاً على حياتي بعد رحلة طويلة من الدراسة والتأمل ..

في نفس اليوم اتجهت وتحدثت الى قس السجن وطلبت منه ان يعمدني فتعمدت. وبعد هذا الصراع المرير وبعد هذا الدرس الكبير، والذل الرهيب، والذنب العظيم، امتدت لي رحمة الله فلم توقفها جدران السجن، أو تمنعها كوني مجرم قاتل لكنها وصلت لي لتنتشل إنسان أثيم مثلي، فلم أكن أتصور بعد أن إله السماء ما زال يحسبني بين أعداد الأحياء، ولم أكن أحلم بأنه سيأتي علىّ مثل هذا اليوم الجديد.ً بعد أن صارت أحلامي مجرد كوابيس، وبعد أن صارت أيامي لحظات تأنيب وأنين، ولكن سقطت كل توقعاتي وتلاشت جميع أوهامي عندما أضاء الرب ليلي الدامس، ورفعني من المذلة، ورضي أن يرتبط بي كأب، ويتبنى مجرم نظيري، ما أعجبه إله وما أروعه أب حنون!

من هنا كانت البداية التي لا تنتهي، سأظل أعلن حب الله للجميع، لا يوقفني إنسان، ولا يمنعني شيطان، ولأخبر عن عمل النعمة وعن اختبار التغيير.لقد أنقذني يسوع من حمأة الخطية، فيسوع ربي وسيدي وملكي وإلهي له كل المجد آمين .

لم تتغير حياتي فحسب بل تغير اسمي ايضا واصبح (يوحنا الأسير)وأنا أخدم الرب من داخل اسوار السجن وأقوم بإصدار مجلة (سفراء في سلاسل)والتي تصدر 4 مرات في السنة، الى جانب خدمة المتابعة والمراسلة مع الكثيرين حول العالم ومن كل الخلفيات.